ولا ينسى التاريخ أن دفاع المسلمين المصريين ضد الإنكليز وعملائهم من دعاة ما يسمى بـ ( تحرير المرأة ) كان انطلاقاً من وجهة نظر الشاعر " أحمد محرم " التي يلخصها قوله مشيراً إلى " مصر " : احـفـظـوها إن مـصـر إن تـضـع ضاع في الدنيا تراث المسلمين
ومن هنا لم يكن عفواً أن يبدأ المبشرون الصليبيون بمصر قلعة الإسلام الصامدة ومركز ثـقله ولم يكن عفواً أن يكون قادة الغزو الصليبي الجديد لمصر من القساوسة المعروفين بكيدهم للإسلام والمسلمين أمثال " دنلوب " هذا الكاهن الذي : ( خلع عنه ثوب الكهنوت ودخل في خدمة الحكومة يدير مدارسها في خلال ربع قرن فكان يناهض القرآن مناهضة سرية متواصلة ) (7) وأمثال" كرومر" الذي تخرج هو و دنلوب من أكبر المدارس اللاهوتية في أوربا (وغيرهم من النصارى الذين رحلوا إلى مصر ليتخذوها قاعدة انطلاق وليجندوا زملاءهم من المنافقين والمنافقات الذين أظهروا أسماء المسلمين وأبطنوا قلوب الذئاب) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( (البقرة:9 ) فمن هنا جاز تجريحهم وكشف عوارهم تحذيراً منهم ونصيحة للمسلمين كما بين ذلك علماء " الجرح والتعديل " ) ولا عدوان إلا على الظالمين ( ( البقرة : 193 ) ولله در القائل : من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعـن كـل بـدعـي أتـى بـالعـجـائـب
ولـولا رجــال مـؤمـنـون لـهــدمــت صــوامـع ديــن الله مــن كـل جـانب
(7) " المخاطر التي تواجه الشباب المسلم " د / " مصطفى حلمي " ص ( 28 ) نقلاً عن ( الإسلام وآسيا أمام المطامع الأوربية ) تأليف أوجين يونج ص ( 157 ) .( " المرأة ومكانتها في الإسلام " لأحمد عبد العزيز الحصين ص ( 207 ) . هذا وقد حرصت أن أعزو – ما استطعت – كل قول إلى قائله لأخرج من تبعته وقصرت جهدي على الجمع والترتيب إلا فيما لابد منه من التوضيح والتهذيب .وهذا الجزء هو الأول من مجموعة ( عودة الحجاب ) يتلوها إن شاء الله تعالى الأجزاء : الثاني ، وموضوعه : المرأة بين تكريم الإسلام وإهانة الجاهلية .والثالث ، ويتضمن : مقدمة في ذم التبرج والحث على الحجاب – شروط زي المرأة المسلمة – الاختلاط وأضراره – معاني الحجاب وتاريخه – بدعة الدعوة إلى السفور – السفور والغيرة – السفور والحياء – أدلة القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب انتقاب المرأة وسرد المذاهب في ذلك ومناقشة أدلة المخالفين .والرابع ، ويتضمن : ثلاث قضايا جامعة : تعليم المرأة ، وعمل المرأة ، وأحكام القرار في البيوت – يسر الله إتمامها . % هذا عدا مسائل أخرى تفرعت من أبواب هذا البحث تعم الحاجة إلى تبيينها وإن بعدت عن المقصود الأصلي منه ولكن قد يذكر الشيء بالشيء وتصح الإضافة بأدنى مشابهة في الزي والفيء وكلها نبضات قد يعوزها الترتيب والتنسيق ولكن أرجو ألا يعوزها الصدق والتوفيق والله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل سعيي هذا مشكوراً وجهدي في هذا الجمع والترتيب – وإن كنت مقلاً – مبروراً ويتوب علينا وعلى سائر العصاة فيما فرط منا من السيئات والذنوب توبة لا يصيبنا بعدها نصب ولا يمسنا فيها لغوب وحسبي بعد ذلك أن أدعو الله أن لا يصرف من نيتي شيئاً إلى غيره وأن يوفقني كي لا أبتغي بما سطرته إلا وجه الله والدار الآخرة فإن من كان همه هناك كان في شغل شاغل عن مدح المادحين وقدح القادحين ) إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله وعليه توكلت وإليه أنيب ( ( هود : 88 ) والحمد لله رب العالمين .
معركة الحجاب والسفور( قضية المرأة )
بين المنهزمين و المتآمرين(9)
إن جملة الأحكام التي يطلق عليها عنوان ( الحجاب ) هي في الحقيقة مشتملة على أهم أجزاء النظام الاجتماعي في الإسلام فإذا وضعت هذه الأحكام موضعها الصحيح في النظام الإسلامي بكامله ثم تأملها أحد فيه أثارة من البصيرة الفطرية السليمة لم يلبث أن يعترف بأنها الصورة الوحيدة الممكنة التي تضمن القصد والاعتدال في الحياة الاجتماعيةوأن هذه الأحكام لو عرضت على العالم منفذة في الحياة العملية بروحها الحقيقية الصحيحة لهرولت الدنيا المنكوبة إلى هذا النبع الصافي تلتمس فيه الدواء لأدوائها الاجتماعية المتفشية بدل أن تنفر منه أو تطعن عليه .في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ومطلع القرن التاسع عشر فوجئت الممالك الإسلامية بطوفان من الاستعمار الغربي وبينما المسلمون في هجود الكرى لم يستيقظوا بعد كل اليقظة جعل هذا السيل يمتد من قطر إلى قطر حتى شرق العالم الإسلامي وغرب وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيداً للغرب الأوربي وخولاً له والتي لم تدخل منها في عبوديته لم تسلم من الخضوع لسلطانه ورهبة بأسه وسطوته .ولما بلغ هذا الانقلاب تمامه بدأت في المسلمين آثار اليقظة والحركة فلما فتحوا أعينهم على الحال التي قد صاروا إليها فشلت ريحهم وزال عنهم بغتة ذلك الفخار والاعتزاز الذي طالما تأصل فيهم لبقائهم في عز الغلبة ومجد السيادة قروناً متوالية فعادوا يفكرون في أنفسهم كالسكران يفيقه توالي الضربات من عدو شديد ويبحثون عن الأسباب التي هبطت بهم وغلبت الإفرنج عليهم غير أن عقولهم لم تكن ثابت بعد إلى رشدها إذ كان السكر لا ريب قد ذهب عنهم ولكن ميزان الفكر كان لا يزال مختلاً فيهم :فبجانب كان يلح بهم شعور بالذلة والهوان ويؤزهم أزاً على تبديل ما هم فيه من الأحوال وبجانب آخر يغلبهم من حب الراحة وإيثار الدعة والارتخاء ما يحملهم على توخي أقرب الطرق وأسهلها لتبديل تلك الحالة وقد خارت فيهم من جهة ثالثة قوى الفكر والعقل وصدئت ملكات الفهم والذكاء بطول تعطلها عن العمل زد على ذلك كله ما أخذ بمجامع نفوسهم من الدهشة والروعة التي تعتري بالطبع كل أمة منهزمة مستعبدة ، (9( مستفاد بتصرف من كتاب " الحجاب " للمودودي رحمه الله ص ( 37- 47 ) طبع مؤسسة الرسالة . وتغلغلت هذه العوامل في محبي الإصلاح من المسلمين وأوقعتهم في كثير من الضلالات العقلية والعملية فأكثرهم ما كادوا يفطنون للأسباب الحقيقية في ارتقاء أوربة وانحطاطهم وأما الذين فهموها منهم وأدركوها فأعوزهم من بعد الهمة والعزيمة ما يتشجعون به على اختيار الطريق الوعرة للرقي والتقدم وكان من وراء ذلك كله الروعة والدهشة التي تعتري الطائفتين على السواء فلما مضوا بهذه العقلية المريضة الزائفة يريدون الإصلاح لم يروا أضمن للرقي من ولا أدنى للوصول إليه من أن يحاكوا في حياتهم اليومية كل مظاهر التمدن والحضارة الغربية فيعودوا كالمرآة الصافية يرى فيها خيال الروضة والأزهار والرياحين وليس فيها من حقيقة هذه المناظر من شيء ." لتتبعن سنن من كان قبلكم " (10)وهذه هي الفترة الانهزامية التي غدت الأمم الإسلامية فيها تحاكي أمم الغرب في الزي واللباس وسائر المظاهر الاجتماعية في آداب المجالس وأطوار الحياة حتى في الحركة والمشي والتكلم والنطق لقد حاولوا تشكيل المجتمع المسلم على الصيغة الغربية وقبلوا الإلحاد والدهرية والمادية في نشوة التجدد بدون حيطة أو شعور بالعواقب وعدوا من لوازم التنور الفكري إيمان المرء بكل ما بلغه من قبل الغرب من فكرة ناضجة أو فجة والإفاضة فيه في مجالسه ورحبوا بالخمر والقمار واليانصيب والتهتك والرقص وما إلى ذلك من ثمرات الحضارة الغربية ثم سلموا بجميع معتقدات الغرب وأعماله في الأخلاق والآداب والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون حتى في العقائد الإيمانية والعبادات سلموا بكل ذلك من غير فهم أو شعور ومن غير نقد أو تجريح كأنه تنزيل من السماء ليس لهم قبله إلا أن يقولوا : ( آمنا ) وأصبح المسلمون أنفسهم يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام بالتحقير والتعيير ولو كان هذا الشيء من الأمور الثابتة في الشرع الحنيف وطفقوا يحاولون أن يمحوا تلك السبة عن أنفسهم : # اعترض الغربيون على ما عندهم من أحكام الجهاد فقال هؤلاء المنهزمون : ( ما لنا وللجهاد يا سادة ؟ إنا نعوذ بالله من هذه الهمجية ) ... # اعترضوا على الرق فقال هؤلاء : ( إنما هو حرام عندنا أصلاً ) (11) # وأطالوا لسان القدح في تعدد الزوجات فجاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه (12) (10) صدر حديث رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري عن النبي " وتتمته (.... شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ )(11) انظر " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " للشنقيطي ( 3/386- 389 ) .(12) انظر المرجع السابق ( 3/773- 380 )# ثم قال أولئك الغربيون : ( لابد من مساواة الرجل و المرأة في جميع نواحي الحياة ) فوافقهم المنهزمون وقالوا : ( وهذا هو الذي ينادي به ديننا ويدعو إليه ). # وطعن القوم في أحكام الزواج والطلاق في الإسلام فقامت طائفة من المنهزمين تعالجها بالإصلاح والتعديل . # ولما عابوا الإسلام بأنه عدو لما يسمى ( الفنون الجميلة ) استدرك هؤلاء قائلين : ( كلا بل ما زال الإسلام مذ كان يحتضن هذه الفنون ويحضوا عليها ويشرف على الرقص والموسيقى والتصوير والغناء ونحت التماثيل ......) ففي سبيل دفع تهم الجمود التي يلصقها الغربيون بالشريعة رأينا هؤلاء المنهزمين ينجرفون إلى أقصى الطرف المناقض في بيان ما تنطوي عليه الشريعة من مرونة التطبيق حتى يبلغوا بهذه المرونة حد الميوعة وانعدام الذات والمقومات تلك الميوعة التي تجعلها صالحة لأن تكون ذيلاً لأي نظام وتبعاً للأهواء وبذلك ينتهون إلى إلغاء وظيفة الدين لأنهم بدلاً من تقويم عوج الحياة بنصوص الشريعة يحتالون على نصوص الشريعة حتى يبرروا بها عوج الحياة المعاصرة . نشأة " مسألة الحجاب " : كان هذا الدور أخبث الأدوار وأخزاها في تاريخ المسلمين ففي هذا العصر نشأت " مسألة الحجاب " ولو كان البحث في هذه المسألة مقصوراً على تعيين الحد الذي وضعه الإسلام لحرية المرأة لهان الأمر ولم يستعص حله لأن أكثر ما هنالك من الاختلاف بين المسلمين في هذا الباب هو منحصر في وجه المرأة ويديها : هل يجوز إبداؤها أم لا ؟ وليس في هذا كبير خطورة ولكن الواقع ههنا غير ما ذكرنا .الواقع في الحقيقة أنه نشأت هذه المسألة في المسلمين لكون الغرب قد نظر إلى الحجاب والنقاب بعين المقت والازدراء وصوره أقبح تصوير وأشنعه فيما كتب ونشر وعدَّ (حبس) المرأة – على حد تعبيره – من أبرز عيوب الإسلام ولكن أنى للمنهزمين أن يغضوا عن هذه النقيصة التي أخذها ( سادتهم ) عليهم فيما أخذوا ؟! لقد فعلوا في هذه المسألة – الحجاب – مثل ما فعلوا في مسائل الجهاد والرق وتعدد الزوجات وما شاكلها من المسائل فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى الكتاب والسنة يتصفحون أوراقهما وإلى كتب الفقه والأحكام ينقبون عن اجتهادات الأئمة فيها وأقوال الفقهاء لعلهم يجدون في ثناياها ما يعينهم على أن يغسلوا عن أنفسهم هذا العار الذميم الذي عيرهم به الغربيون . فإذا بهم يقعون على أقوال لبعض الأئمة تجيز للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها وتخرج كذلك من بيتها لحوائجها ويؤخذ منها أيضاً أن المرأة يجوز لها أن تشهد الحرب لسقي المجاهدين ومداواة الجرحى ثم وجدوا في تلك الأقوال إذناً بخروج المرأة إلى المسجد للصلاة وجلوسها للتعلم والتعليم فكفاهم هذا القدر من المعلومات لأن يدعوا أن الإسلام قد أعطى للمرأة حرية مطلقة (13) وأن الحجاب من تقاليد الجهلاء اتخذه المتأخرون من المسلمين الجامدين المتشددين ولا أثر له في آية ولا في حديث وإنما القرآن والسنة يعلمان الحياء والعفاف على سبيل التوجيه الخلقي العام وليس فيهما قانون أو ضابط بقيد حركة المرأة وتنقلها بقيد ما . ومن الضعف الطبيعي في الإنسان إنه إذ اختار مذهباً من المذاهب في شئون حياته يكون بدء اختياره لذلك المذهب بنزعة عاطفية غير عقلية ثم يأتي بعد ذلك فيستعين بالمنطق والعقل ليثبت كون نزعته تلك صحيحة معقولة كذلك وقع في أمر الحجاب أيضاً فما عرضت للمسلمين مسألة الحجاب لشعورهم بضرورة عقلية أو شرعية إليه وإنما أتت من ذلك الميل والنزوع الذي نشأ من تأثرهم ببريق حضارة أمة غالية ومن ارتياعهم لدعاية تلك الأمة ضد التمدن الإسلامي . وذلك أن المسمين برجال ( الإصلاح ) لما رأوا المرأة الأوربية وما هي عليه من زينة وحرية في الحركة والجولة ونشاط زائد في المجتمع الغربي .... لما رأوا كل هذا بعيون مسحورة وعقول مندهشة تمنوا بدافع الطبيعة أن يجدوا مثل ذلك في نسائهم أيضاً حتى يجاري تمدنهم تمدن الغرب ثم أثرت فيهم الدعوات الجديدة إلى تحرير المرأة وتعليم النساء ومساواتهن بالرجال ... تلك الدعوات التي كانت تنصبُّ عليهم كالوابل المدرار بلغة قوية منطقية وفي طبع أنيق كذاب حتى أماتت هذه الكتب والمنشورات الغربية بقوة دعايتها ملكة النقد والتجريح عندهم فاستقر في سويداء قلوبهم أنه لابد لكل من يرغب أن يعدَّ من ( المتنورين التقدميين ) ويدفع عن نفسه تهمة ( الرجعية والتخلف ) أن يؤمن بتلك النظريات إيمانه بالغيب ويؤيدها ويحامي عنها فيما يكتب ويخطب ثم يروجها في الحياة العملية بحسب ما أوتي من همة وجراءة كان هؤلاء تكاد تسوح بهم الأرض من فرط الخجل حينما يرون الغربيين يتهكمون بنسائهم المتنقبات المستورات في اللباس العادي وينبذونهن بـ ( الجنائز المكفنة المتحركة ) وإلى متى – يا ترى – يطيق القوم الصبر على هذه الوخزات ؟ ... لذلك استعدوا آخر الأمر – طوعاً أو كرهاً – لأن يقوموا فيدفعوا عن أنفسهم هذا العار المخزي . (13) يأتي في ثنايا هذا البحث إبطال هذه الادعاءات ومناقشة شبهات القوم إن شاء الله تعالى . وهذه النزعات والعواطف هي التي دفعت المنهزمين إلى أن يقوموا بحركة ما يسمى : ( تحرير المرأة ) التي بدأوها في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي فمنهم من كانت هذه النزعات كامنة في شعورهم الخفي فلا يدرون بأنفسهم ماذا يجرهم ويدفعهم إلى تلك الحركة فكانوا مخدوعين عن أنفسهم ومنهم آخرون كانوا يشعرون بنزعاتهم شعوراً تاماً ولكنهم يستحيون ويحجمون عن إبداء نزعاتهم الحقيقية فهؤلاء لم يكونوا مخدوعين بل دهاة خادعين وأياً كان الأمر فقد قام كلا الفريقين بعمل واحد ألا وهو : سحب ذيل الخفاءعلى المحركات والدوافع الحقيقية لحركته تلك وحاول أن يظهرها بمظهر حركة عقلية بدلاً من إظهارها حركة عاطفية وساق في تأييدها جميع الأدلة التي تلقاها من الغرب مباشرة كصحة النساء وارتقائهن في مجال الفكر والعمل وحقوقهن الفكرية واستقلالهن الاقتصادي وتخلصهن من ظلم الرجال وأثرتهم وانحصار رقي المدنية في رقيهن لكونهن شطراً كاملاً من الأمة ... إلى آخر هذه الحجج وحتى ينخدع عامة المسلمين ولا يفتضح عليهم صميم المقصد من تلك الحركة وهو حمل المرأة المسلمة على اقتفاء آثار المرأة الأوربية واتباع المناهج الاجتماعية الرائجة بين أمم الغرب أعني : اليهود والنصارى...ولكن الأدهى والأخبث أنهم عادوا يخدعون الناس في هذا الصدد عن طريق احتيالهم في إثبات حركتهم الضالة بنصوص واستنباطات من الكتاب والسنة بالرغم من وجود البون الشاسع بين المنهج الإسلامي الرباني في الاجتماع ومقاصد هذه الشريعة العليا وبين مبادئ النظام الاجتماعي الأوربي ومقاصده . فإن المقصد الأعلى الذي يريد أن يحققه الإسلام من خلال نظامه الاجتماعي هو صون الأعراض وكبح جماح الشهوات وترويضها وضبطها وتقييدها بضوابط أخلاقية تضمن استعمالها في خير الإنسان وطهارته بدل إهمالها أو تضييعها في الفوضى والهمجية . وأما النظام الاجتماعي الغربي فعلى العكس من ذلك يرمي إلى الحث على سير التمدن بإشراك المرأة والرجل في تدبير شؤون الحياة وتحمل تبعاتها على حد سواء واستعمال الشهوات في فنون ووسائل تحول متاعب الحياة إلى لذات ومسرات . ومن هنا يتضح الفرق إذ أن الإسلام يضع نظاماً للاجتماع ليخدم مقاصده فقد فصل فيه بين دائرتي عمل الرجل و المرأة إلى حد كبير وحُظر اختلاط الذكور بالإناث بدون قيد خلقي ثم حسمت فيه جميع الأسباب التي يمكن أن تخل بهذا الضبط والتقييد وبذلك تجفف منابع الفتنة وتسد الذرائع إليها وتراعى حرمات الله وتؤدى حقوقه سبحانه وتعالى وكذا حقوق النفس وحقوق الخلق في انسجام فطري وتناسق طبيعي وهذا بخلاف النظام الأوربي الذي يدفع اللاغىين إلى ميدان مشترك في الحياة مع رفع جميع الحجب من بينهما تلك الحجب التي تحول دون اختلاطهما الحر ومعاملتهما المطلقة التي لا تحدها حدود . ولك أن تقدر شدة مكر القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي ثم يُسوِّغون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي . إن أقصى ما أوتيت المرأة من الحرية في النظام الإسلامي هو أن تبدي وجهها وكفيها إذا دعت الضرورة وأن تخرج من بيتها لحاجتها ولكن هؤلاء يجعلون هذا الحد الأقصى من حريتها نقطة البدء وبداية المسير فيقومون إلى آخر حدود الإسلام ويتقدمون في سبيل الحرية ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام فلا يقف الأمر بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين بل يجاوزه إلى تعرية الوجه والذراع والنحر إلى آخر هذه الهيأة القبيحة المعروفة وهي الهيأة التي لا تخص بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط بل يخرجن بكل تبرج من بيوتهن ويمشين في الأسواق ويخالطن الرجال في الجامعات ويأتين الفنادق والمسارح ويتبسطن مع الرجال الأجانب ... ثم يأتي القوم فيحملون رخصة الإسلام للمرأة في الخروج من البيت للحاجة وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف على أنها يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات وتتردد إلى المنتزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة و أفتنها للناظرين ثم يتخذ إذن الإسلام لها في ممارسة أمور غير الشؤون المنزلية – ذلك الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة – يتخذ حجة ودليل على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية وتدخل في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تماماً وحذو القذة بالقذة كما فعلت الإفرنجية . وها هو ذا المودودي – رحمه الله – يصرخ في وجوه هؤلاء الأحرار في سياستهم العبيد في عقليتهم قائلاً : ( ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يستخرج منه جواز هذا النمط المبتذل من الحياة ؟ وإنكم – يا إخوان التجدد – إن شاء أحدكم أن يتبع غير سبيل الإسلام فهلا يجترئ ويصرح بأنه يريد أن يبغي على الإسلام ويتفلت من شرائعه ؟ وهلا يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة التي تزيِّن له أن يتبع علناً ذلك النظام الاجتماعي وذلك النمط من الحياة الذي يحرمه الإسلام شكلاً وموضوعاً ثم يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل باسم اتباع القرآن كي ينخدع به الناس فيحسبوا أن خطواته التالية موافقة للقرآن )أهـ حركة " تحرير المرأة " في مصر البذرة الأولى : ( إن المتتبع لتاريخما يسمى بحركة " تحرير المرأة " في مصر يجد أن جذور هذه الحركة تمتد إلى عهد محمد علي باشا والي مصر حينما بعث المبعوثين إلى فرنسا ليتلقوا هناك الخبرات والمهارات الفنية ثم يحملوها معهم إلى مصر لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل رجع المبعوثون من فرنسا حاملين تيارات فكرية مادية دخيلة على دينهم بعد أن بهرتهم رهبانية العلم المادي وتعبدهم سلطان العقل لقد عاد أولئك المبعوثون يحتلون مراكز الصدارة والتوجيه في مختلف الميادين السياسية والتربوية والفكرية ) (14) # دور الشيخ " رفاعة الطهطاوي " ( 1801- 1873 م ) : ( وكان من أعضاء الجيل الأول لهؤلاء المبعوثين الشيخ " رفاعة رافع الطهطاوي " الذي أقام في باريس خمس سنوات " من 1826 – 1831 " تقريباً وكان قد رافق البعثة المصرية كواعظ وإمام لها وما إن عاد إلى مصر حتى بدأ يبذر البذور الأولى لكثير من الدعوات الدخيلة على البيئة المصرية المسلمة تلك الدعوات التي حمل جراثيمها معه من فرنسا مثل الدعوة إلى فكرة " الوطنية القومية " بمفهومها المادي المحدود المنابذ للرابطة الإسلامية بين المسلمين مهما تباعدت أوطانهم وكذا استوحى من واقع الحياة الفرنسية أفكاراً عن المرأة هي أبعد ما تكون عن شرائع الإسلام وآدابه وقد تجلى ذلك في مواقفه الجريئة من قضايا تعليم الفتاة وتعدد الزوجات وتحديد الطلاق واختلاط اللاغىين حيث ادَّعى في كتابه " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " (15) (ص 305) أن :{ السفور والاختلاط بين اللاغىين ليس داعياً إلى الفساد } اهـ وذلك ليُسوِّغ دعوته إلى الاقتداء بالفرنسيين حتى في إنشاء المسارح والمراقص مدعياً – ما معناه – : { الرقص على الطريقة الأوربية ليس من الفسق في شيء بل هو أناقة وفتوة } وأنه لا يخرج عن قوانين الحياء ودعا المرأة إلى التعلم حتى تتمكن من تعاطي الأشغال والأعمال التي يتعاطاها الرجال ) (16) (14) انظر " الإسلام والحضارة الغربية " للدكتور " محمد محمد حسين " رحمه الله ص ( 17 – 18 ) .(15) ( وقد كتب الطهطاوي هذا الكتاب أثناء إقامته في فرنسا وعرضه على أستاذه ( جومار) قبل أن ينشره بعد عودته ) اهـ من "السابق" ص (19- 20) . ( وقد بين لنا هذا الكتاب – أي" تخليص الإبريز" - أن صاحبه خلق من جديد في الفترة التي قضاها في فرنسا يأنس إلى علمائها ويأنسون إليه فإذا عاد إلى القاهرة أشرف على حركة الترجمة وعُيِّن رئيساً لتحرير الوقائع المصرية وكتب المقالات وألف الكتب وترجم القوانين وعُيِّن ناظراً لمدرسة الألسن)اهـ من " تطور النهضة النسائية في مصر"لإبراهيم عبده و درية شفيق ص (53) (16) " الإسلام والحضارة الغربية " د / محمد محمد حسين ص ( 36 ) .