ثالثاً : إن كان حديث أبي هريرة محفوظاً فهو منسوخ بحديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، والذي رواه ابن خزيمة في " صحيحه " قال : " كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين " .
رابعاً : حديث أبي هريرة مضطرب المتن . فإن منهم من يقول : " وليضع يديه قبل ركبتيه " ومنهم من يقول بالعكس . ومنهم من يقول : " وليضع يديه على ركبتيه " كما رواه البيهقي .
خامساً : أن رواة حديث أبي هريرة قد تكلموا فيهم .
قال البخاري : " محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه . ولا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا " ؟ وقال الدارقطني : " تفرد به الدرواردي عن محمد بن عبد الله المذكور " وأعله الدارقطني أيضاً بتفرد أصبغ بن الفرج عن الدرواردي .
سادساً : أن لحديث وائل بن حجر شواهد ، أما حديث أبي هريرة فليس له شاهد . !
سابعاً : أن ركبة البعير ليست في يده وإن أطلقوا على اللتين في اليدين اسم الركبة فإنما هو على سبيل التغليب ! وأن القول بأن ركبة البعير في يده لا يعرفه أهل اللغة .
قلت : هذه كانت جملة المطاعن وهي كما أشرت ـ قبل ـ مطاعن لا تثبت على النقد .
والجواب عليها من وجوه مراعياً الترتيب .
الأول : أن حديث وائل بن حجر حديث ضعيف .فأخرجه أبو داود ( 3 / 68 ـ 74 عون ) والنسائي ( 2 / 206 ـ 207 ) وابن ماجة ( 1 / 287 ) والدرامي ( 1 / 245 ) والطحاوي في " شرح المعاني " ( 1 / 255 ) والدارقطني ( 1 / 345 ) والحاكم في " المستدرك " ( 1 / 226 ) وابن حبان ( 487 ) والبيهقي ( 2 / 98 ) والبغوي في " شرح السنة " ( 3 / 133 ) والحازمي في " الاعتبار " ( ص 160 ـ 161 ) من طريق شريك النخعي عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد يضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه " . قال الترمذي : " هذا حديث حسن غريب . لا نعرف أحداً رواه مثل هذا عن شريك " . وتبعه البغوي فقال : " حديث حسن " وكذا الحازمي . وقال الدارقطني : " تفرد به يزيد بن هارون عن شريك ولم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك . وشريك ليس بالقوي فيما تفرد به " . وقال البيهقي ( 2 / 101 ) : " إسناده ضعيف " . وقال أيضاً : " هذا حديث يعد في أفراد شريك القاضي وإنما تابعه همام من هذا الوجه مرسلاً . وهكذا ذكره البخاري وغيره من الحفاظ المتقدمين رحمهم الله تعالى " .
وقال ابن العربي في " عارضة الأحوذي " ( 2 / 68 ـ 69 ) : " حديث غريب " .
قلت : وهذا القول منهم هو الذي تطمئن إليه نفس المرء المنصف . فإنه لا يعلم بتة لشريك متابع عليه إلا همام . ومع ذلك فقد خالفه في إسناده كما يأتي بيانه إن شاء الله . وشريك كان سيىء الحفظ . وسيىء الحفظ لا يحتج به إذا انفرد ، فكيف إذا خالف . ! قال إبراهيم بن سعد الجوهري : " أخطأ شريك في أربعمائة حديث " وقال النسائي : " ليس بالقوي " وضعفه يحيى بن سعيد جداً . وعليه فقول الترمذي : " حديث حسن " غير حسن . وأشد منه قول الحاكم " صحيح على شرط مسلم " وإن وافقه الذهبي ! . فشريك إنما أخرج له مسلم متابعة ولم يخرج له احتجاجاً . فأنى يكون على شرطه ؟ وقد صرح بذلك الذهبي نفسه في " الميزان " ثم كأنه ذهل عنه . فسبحان من لا يسهو .
أما مخالفة همام لشريك فأخرجها أبو داود في " سننه " ( 3 / 69 عون ) و البيهقي ( 2 / 99 ) عنه ثنا شقيق أبو الليث قال : حدثني عاصم بن كليب عن أبيه مرسلاً بنحوه . قال البيهقي : " قال عفان : هذا الحديث غريب " وقد خالف شقيق شريكاً القاضي أرسله " . قلت : ولكن شقيق هذا مجهول . قال الذهبي : " شقيق بن عاصم بن كليب وعنه همام لا يعرف " وأقره الحافظ في " التقريب " فقال : " مجهول " .
وأخرجه أبو داود والبيهقي من طريق همام ثنا محمد بن جحادة عن عبد الجبار ابن وائل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ولكنه حديث واهٍ . فعبد الجبار لم يسمع من أبيه . كما قال الحافظ في " التلخيص " ( 1 / 245 ) . ولم يعتبر الحافظ الحازمي هذه الطريق شيئاً فقال في " الاعتبار " ( ص 161 ) : " والمرسل هو المحفوظ " .
فتبين مما قد ذكرته أن حديث وائل ضعيف بعلتين :
الأولى : ضعف شريك .
الثانية : مخالفة همام له . والله أعلم .
( تنبيه ) وقع في " موارد الظمان إلى زوائد ابن حبان " للحافظ نور الدين الهيثمي بدل " شريك " : " إسرائيل " وكنت في باديء أمري أظنها متابعة منه لشريك . وجعلت أتعجب في نفسي كيف خفيت على الدارقطني وغيره حتى قالوا : لم يروه عن عاصم إلا شريك " غير أني قلت في نفسي لعلها تصحفت عن شريك ثم إنه لا يمكن القطع في مثل هذا دون دليل قوي . وظللت هكذا حتى وصلني الجزء الثاني من "ضعيفة " شيخنا الألباني حفظه الله تعالى فإذا الأمر على ما كنت أحسب والحمد لله .
قال شيخنا حفظه الله تعالى : ( 2 / 329 ) : " وقع في الموارد : " إسرائيل " بدل " شريك " وهو خطأ من الناسخ وليس من الطابع ، فقد رجعت إلى الأصل المخطوط المحفوظ في المكتبة المحمودية في المدينة المنورة فرأيته في ( ق 35 / 1 ) : " إسرائيل " كما في المطبوعة عنه فليتنبه " اهـ .
الوجه الثاني :
قال شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ رضي الله عنه : " وحديث أبي هريرة لعل متنه انقلب .. الخ " .
قلت : أصاب شيخ الإسلام أجراً واحداً . فما قاله أقرب إلى الرجم بالغيب منه إلى التحقيق العلمي . وقد رده الشيخ على القاري رحمه الله تعالى في " مرقاة المفاتيح " ( 1 / 552 ) فقال : " وقول ابن القيم أن حديث أبي هريرة انقلب متنه على راويه فيه نظر إذ لو فتح هذا الباب لم يبق اعتماد على رواية راوٍ مع كونها صحيحة " اهـ وصدق يرحمه الله . فلو فتح هذا الباب لرد الناس كثيراً من السنن دونما دليل بحجة أن راويه أخطأ فيه ولعله كذا .
الوجه الثالث : أن الأحاديث التي أوردها معلولة لا تقوم بمثلها حجة ! فلا يعول على شيء منها عند أئمة النقد . والحديثان اصلهما حديث واحد . فأخرجه ابن أبي شيبة ( 1 / 263 ) ( ( ب ) ) وكذا الطحاوي ( 1 / 255 ) والبيهقي ( 2 / 100 ) من طريق محمد بن فضيل عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة مرفوعاً . فذكره .
قلت : وإسناده ساقط ! وآفته عبد الله بن سعيد هذا فقد كذبه يحيى القطان . وقال أحمد : " منكر الحديث متروك الحديث . . " . وقال ابن عدي : " عامة ما يرويه الضعف عليه بين " وقال الحاكم أبو أحمد : " ذاهب الحديث " والكلام فيه طويل الذيل . ولذا قال الحافظ في " الفتح " ( 2 / 291 ) : " إسناده ضعيف " .
الوجه الرابع :
قال شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ : " إن كان حديث أبي هريرة محفوظاً فهو منسوخ .. " . قلت : وهو تعلق متداعٍ ! وقد سبقه إليه إبن خزيمة والخطابي . ولكن الحديث الذي زعموا أنه ناسخ حديث ضعيف . فكيف ينهض لنسخ حديث صحيح ؟ وهذا الحديث أخرجه ابن خزيمة في " صحيحه " ( 1 / 319 والبيهقي ( 1 / 100 ) والحازمي في " الاعتبار " من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كميل قال حدثني أبي عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه . فذكره . ولكن إسناده ضعيف جداً ! وله علتان بل ثلاثة :
الأولى : إبراهيم بن إسماعيل هذا قال فيه ابن حبان : " في روايته عن أبيه بعض المناكير " وكذا قال ابن نمير . وقال العقيلي : " لم يكن إبراهيم يقيم الحديث " .
الثانية : أبوه إسماعيل بن يحيى متروك كما قال الأزدى والدارقطني . وقد ألمح إلى ذلك الحافظ فقال في " الفتح " ( 2 / 291 ) : " وقد ادعى ابن خزيمة النسخ ولو صح حديث النسخ لكان قاطعاً للنزاع . ولكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كميل عن أبيه وهما ضعيفان " .
الثالثة : يحيى بن سلمة واهٍ . تركه النسائي ، وقال أبو حاتم وغيره : " منكر الحديث " وقال ابن معين : " لا يكتب حديثه " . وقال الحافظ الحازمي : " أما حديث سعد ففي إسناده مقال ولو كان محفوظاً لدل على النسخ غير أن المحفوظ عن مصعب عن أبيه حديث نسخ التطبيق . والله أعلم " اهـ . وقال النووي في " المجموع " ( 3 / 422 ) : " ولا حجة فيه لأنه ضعيف " . قلت : وأقره شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ في " الزاد " ورغم ذلك أورده كناسخ ! . وقال شيخنا الألباني في تعليقه على " المشكاة " ( 1 / 282 ) بعد قول الخطابي في النسخ : " وهذا يعني قول الخطابي في دعوى النسخ أبعد ما يكون عن الصواب من وجهين :
الأول : أن هذا إسناد صحيح ـ يعني حديث أبي هريرة ـ وحديث وائل ضعيف .
الثاني : إن هذا قول وذاك فعل والقول مقدم على الفعل عند التعارض .
ثم وجه ثالث : وهو أن له شاهداً من فعله صلى الله عليه وآله وسلم . فالأخذ بفعله الموافق لقوله أولى من الأخذ بفعله المخالف له وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى . وبه قال مالك وعن أحمد نحوه كما في "التحقيق " لابن الجوزي " اهـ .
الوجه الخامس :
قال شيخ الإسلام ـ ابن القيم ـ رضي الله عنه : " وحديث أبي هريرة مضطرب المتن . . . " !
قلت : ليس كما قال . فالاضطراب ـ هو أن يُروى الحديث على أوجه مختلفة متقاربة . ثم إن الاختلاف قد يكون من راوٍ واحدٍ بأن رواه مرة على وجه ، ومرة أخرى على وجه آخر مخالف له ، أو يكون أزيد من واحد بأن رواه كل جماعة على وجه مخالف للآخر . والاضطراب موجب لضعف الحديث لأنه يشعر بعدم ضبط رواته . ويقع في الإسناد والمتن كليهما . ثم إن رجحت إحدى الروايتين أو الروايات على الأخرى بحفظ راويها أو كثرة صحبته أو غير ذلك من وجوه الترجيحات فالحكم للراجحة ولا يكون الحديث مضطرباً . هذه هي القاعدة التي وضعها أسلافنا رضوان الله عليهم للحديث الذي يتنازع في أنه مضطرب . فإن علم ذلك فإن الحديث المعارض لحديث الباب حديث ساقط الإسناد لضعف عبد الله بن سعيد الشديد حتى لقد اتهمه يحيى القطان بأنه يكذب . وتقدم شرح ذلك . فيزول الاضطراب بترجيح حديث أبي هريرة الذي هو حجة لنا في الباب . والله الموفق .
الوجه السادس :
قول البخاري : " محمد بن عبد الله بن الحسن لا أدري أسمع من أبي الزناد أو لا " .
قلت : ليس في ذلك شيىء بتة . وشرط البخاري معروف . والجمهور على خلافه من الاكتفاء بالمعاصرة إذا أمن من التدليس . ولذا قال ابن التركماني في " الجوهر النقي " : " محمد بن عبد الله بن الحسن وثقه النسائي ، وقول البخاري : " لا يتابع على حديثه " ليس بصريحٍ في الجرح ، فلا يعارض توثيق النسائي " اهـ .
ومحمد هذا كان يلقب بالنفس الزكية وهو براء من التدليس فتحمل عنعنته على الاتصال .
قال المباركفوري في " تحفة الأحوذي " ( 2 / 135 ) : " أما قول البخاري : " لا يتابع عليه " فليس بمضرٍ فإنه ثقة ولحديثه شاهد من حديث ابن عمر " اهـ وسبقه الشوكاني إلى مثل ذلك في " نيل الأوطار " ( 2 / 284 ) وانتصر لذلك الشيخ المحدث أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر في " تعليقه على المحلى " ( 4 /128 ـ 130 ) فقال بعد أن ساق حديث أبي هريرة : " وهذا إسناد صحيح " .
محمد بن عبد الله بن الحسن هو النفس الزكية وهو ثقة . وقد أعل البخاري الحديث بأنه لا يدري سمع محمد من أبي الزناد أم لا . وهذه ليست علة .
وشرط البخاري معروف لم يتابعه عليه أحد ، وأبو الزناد مات سنة ( 130 ) بالمدينة . ومحمد مدني أيضاً غَلَبَ على المدينة ثم قتل سنة ( 145 ) وعمره ( 53 ) سنة فقد أدرك أبا الزناد طويلاً " اهـ .
الوجه السابع :
إعلال الدارقطني أنه تفرد به الدرواردي .
قلت : فيه نظر . فإن الدراوردي واسمه عبد العزيز بن محمد ثقة من رجال مسلم فتفرده لا يضر الحديث شيئاً . غير أنه لم يتفرد به . فقد تابعه عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله به . أخرجه أبو داود (841 ) والنسائي ( 2 / 207 ) والترمذي ( 2 / 57 ـ 58 شاكر ) . وقد تعقب الحافظ المنذري الدارقطني بمثل ذلك ، والشوكاني في " نيل الأوطار " (2/286 . " ولا ضير في تفرد الدراوردي فإنه قد أخرج له مسلم في " صحيحه " واحتج به وأخرج له البخاري مقروناً بعبد العزيز بن أبي حازم . وكذلك تفرد به أصبغ فإنه حدث عنه البخاري في " صحيحه " محتجاً يه " اهـ وأقره صاحب " تحفة الأحوذي " ( 2 / 135 ) .
تابع000