هل يعقل أن نلوم طفلا مصابا بلين العظام لأنه لا يستطيع استخدام ساقيه؟! وهل يحق لنا أن نحاسب أعمى لأنه ضل الطريق؟!
هذه الأسئلة طرحتها بعد حضوري جلسة اجتمع فيها بعض الشيوخ.. قال أحدهم: رأيت شابا صبغ شعره الطويل المسترسل بلون أزرق كلون المحيط، ووضع قرطا في أذنيه، وأطلق أجزاء من جانبي لحيته، فأصبحت لا أعلم انتماءاته، وهل هو إلى عالم الرجال أم النساء أقرب؟!
وفور سرد هذه الحادثة فكت قيود الألسنة، وفتحت نوافذ القلوب لتتدفق شلالات الشكوى، وبدلا من القصة الواحدة سمعت عشرات القصص أعرفها كلها عن ظهر قلب عن الشباب والموضة.. موضة في الملابس، في الأكل، في الكلام، في الرياضات وفي وسائل الترفيه والغناء والموسيقى، والتهمة دائما جاهزة: هذا الشباب خليط شيطاني، ضعيف الشخصية، ضعيف العزيمة، ضعيف البصر والبصيرة.. لماذا لم نكن كذلك؟!
واجهتهم بأسئلتي فسكتوا، فقلت لهم: أنا شابة، ومع ذلك فإنني معكم في كل ما ذكرتم إلا في شيء واحد، فحالة الضياع (والجري وراء كل موضة وصرعة) التي يمر بها الشباب اليوم ليست نبتا شيطانيا، بل هي محصلة طبيعية لتراث من الإهمال والعشوائية التي تمت معاملتنا بها، وإذا كان الأمر كذلك فنحن في حقيقة الأمر ضحايا ولسنا جناة.
إن ما ينبغي أن نسلم به اليوم هو أن ما نصفه بأنه تهافت شبابي على كل صرعة أو موضة -شرقية أو غربية- وصدم المجتمع بكل ما هو جديد وغريب على عاداته وتقاليده ليس في جوهره إلا سعيا من قبل هؤلاء الشباب لتكوين ثقافة فرعية خاصة بهم، وهي تلك الثقافة التي يصفها علم الاجتماع بأنها تقيم حاجزا فاصلا بين المراهقين والشباب من جهة، وبين عالم الكبار ولغتهم من جهة أخرى، وقد يحدث الانفصال بين الشباب والمجتمع بأسره، وثقافة الشباب الفرعية هي بهذا المعنى ثقافة مضادة تعبر عن تحد سافر للقيم والمعايير التي يعتبرها المجتمع أساس نظامه القائم، وهي أيضا ليست إلا شكلا من أشكال التمرد والرفض الذي يمارسه الشباب بدافع من عقلهم الجمعي ضد أوضاع تبعث من وجهة نظرهم على الإحباط.
الشباب إذن يمارس نوعا من الرفض للواقع الذي شكل الكبار معالمه، على مستوى السياسة والاقتصاد والأوضاع الاجتماعية سواء منها ما يتعلق ببناء الأسرة الداخلي، أو العلاقات الطبقية داخل المجتمع الصغير، أو آليات الحراك الاجتماعي داخل المجتمع الواسع الذي يعيش فيه (الدولة أو الوطن).. هو رفض لصور الفساد المالي والاقتصادي والأخلاقي التي صارت شعارا للعصر، ورفض لصور الخنوع والذل والاستسلام التي صارت شعارا للممارسة السياسية، ورفض للاستئساد الذي يمارسه الرجال على النساء والأغنياء على الفقراء والأقوياء على الضعفاء وأصحاب السلطة على الدهماء في المجتمع، ورفض للقسوة التي صارت شعارا عاما للعلاقات بين عربي وعربي ومسلم ومسلم.
وحسبما يقول أحد علماء الاجتماع الغربيين (بايونج شل بارك) فإن مثل هذه الثقافة الفرعية تكون أقرب للظهور في مجتمعات تتسم بالتغير السريع، وهو التغيير الذي لا يسمح بتوفر أرضية مشتركة بين الشباب ومن هم أكبر منهم سنا، ولا تسمح بوجود مساحات للتواصل.
والثقافة الفرعية التي تبدو لنا في شكل موضات أو تقليعات شبابية ليست في جوهرها إلا محاولات متخبطة لبناء واقع جديد ما زال مجهول المعالم، والمشكلة أن البناء يتم دون خطة ودون خبرة، ما يجعله تعقيدا للمشكلة الأصلية التي يتمرد الشباب عليها وليس حلا لها.
ولو أردنا أن نراجع الفترات التي ظهرت فيها الموضات الشبابية الكبرى مثل موضات الهيبز والإباحيين التي انتشرت في أنحاء أوربا، ووجدت أصداء لها في العالم العربي، في أواسط الستينيات من القرن الماضي، لوجدنا أنها كانت في حقيقتها رفضا للأجواء السياسية العامة التي كانت تعم العالم في عصر الحرب الباردة، وحالات الظلم والشراسة والوحشية التي أظهرها الإنسان بعدما بدأ يقطف ثمرات المدنية ، فأراد الشباب بهذه الحركة التمرد على هذه المدنية بالسعي نحو الغرق في عالم البدائية -والحيوانية- أحيانا.
وعلى المستوى الاجتماعي والإنساني، فقد تواكبت هذه الحركات في فترة الستينيات مع بداية التفسخ القوي في الأسرة الغربية ككيان اجتماعي يوفر للمنتمين إليه نوعا من الإشباع لاحتياجاته من الأمان والتواصل.
ولو أمعنا النظر فيما يحدث حاليا، لوجدنا أن الشباب اليوم يواجه مشهدا مفصليا، ويعاني من إحباطات سيطرة القطب الواحد على العالم، ويخشى عواقب ما يسمى بالعولمة التي بدأ يتجرع مرارتها على مستواه المحلي، في البطالة التي زادت معدلاتها مع السقوط المتوالي للكيانات الصناعية الصغيرة لصالح الكيانات الكبرى.
وفي مواجهة ذلك بدأت تبرز بين الشباب حركات التمرد المنغلقة على ذاتها مثل النازيين الجدد، وعبدة الشيطان، وجماعات الغياب عن المجتمع مثل من يطلق عليهم جماعة اكستيزي xtc الذين يعرفون باسم مخدر كيميائي شهير يتعاطونه في مهرجان ضخم بألمانيا.
وفي عالمنا العربي تنتقل هذه الموضات لأن لها مبرراتها، فالشباب يعاني من نفس الإحباطات على المستوى العالمي والإقليمي والوطني، ومؤسسة الأسرة بدأ يتسرب إليها ذات التفكك الذي أصاب الأسرة الغربية بتأثير بعض دعاة تطوير المرأة على النموذج الغربي، فلماذا إذن لا نعذره إذا انعزل وسعى لتكوين ثقافة فرعية بعد أن يئس من الثقافة التي يسعى الكبار إلى توريثها؟!
لست مع ذلك أرى أن الشباب معذورون إذا ضلوا وهم يرسمون معالم هذه الثقافة الوليدة، ولكن الحل الوحيد هو بتقديم التطعيم منذ الصغر، وأعني بذلك أن يعرف الشباب مقدما أن هناك منظومات للقيم الإنسانية هجرها الإنسان منذ زمن بعيد، ولو أنه عاد فطبقها فإن النجاح سيكون حليفه وحليف البشرية، ألا وهي الإسلام