القرآن الكريم والتوازن النفسي0

عندما شاء الله عز وجل أن يجعل الإنسان خليفة له في الأرض شعر الملائكة بالحيرة فتساءلوا عن الحكمة من وراء ذلك(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)فهم كانوا يرون أن مجتمع الإنسانية سيكون مجتمعا يتخبط في الفساد والقتل ولكن الله تعالى كان يعلم أنه سيكون من الناس من يؤمن به إلها وربا ومنهم من سيستمر بعمل الخير وهم الموعودون بالاستخلاف (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)ومهمة الإعمار والبناء المادي والمعنوي والتي تتطلب الإنسان السوي والسليم جسديا ونفسيا..ومع أن الصحة النفسية عند علماء النفس تعني حالة من التوازن والتوافق بين الإنسان ونفسه وبين الإنسان والمجتمع فيجعله يعيش حالة من الشعور بالطمأنينة والرضا إلا أن علماء النفس المسلمون يرون أن الصحة النفسية هي حسن الخلق مع الله ومع الذات ومع الخلق, وحسن الخلق لا بد له من إيمان حقيقي وقوي يكون هو الدافع للتعامل بصدق و إخلاص مع الله ومع النفس ومع المجتمع وبالتالي الابتعاد عن القلق والخوف والوساوس.
فالإنسان السوي في نظر الإسلام هو الشخص المؤمن الذي تبرز فيه أفضل السمات والصفات الأخلاقية, والدين هو الأساس في معالجة النفس مما قد تصاب به من اضطرابات وأمراض نفسية لأنه هو المنهج الذي وضعه الله للعقل والقلب, وهو أعظم معين للإنسان للتغلب على التوترات والصراعات التي يتعرض لها .
ولقد عالج القرآن الحالة النفسية للإنسان لدى ارتكابه أخطاء سلوكية من خلال مساعدة الفرد على الاعتراف بخطاياه، فالإسلام يقر بنظرية الاعتراف وهذا الاعتراف يكون بين الإنسان وربه ، فالإنسان في حالة اقترافه ذنبا وشعوره بفداحة خطيئته وتأنيب الضمير يحدث اضطرابا في نفسه وبالتالي فإن التنفيس عن مشاعره بالالتجاء إلى ربه والاعتراف بذنبه وطلب المغفرة يخفف من هذه الاضطرابات ، وقد صور لنا القرآن بعض هذه الاعترافات حتى يعمل بها المؤمنون لتكون لهم شفاء ولتكون حافزا لهم لتغيير مجرى حياتهم نحو الأفضل ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) ويدعو الله المؤمنين لطلب المغفرة منه لما اقترفوه من ذنوب مبينا لهم أنه غفور رحيم ( واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) وهذا لا ريب أنه سينزع عنه الشعور بالإثم والقلق والخوف ويدخل إلى قلبه الطمأنينة التي هي المدخل إلى الصحة النفسية
ومن ثم يقرن الله عز وجل هذه الاعترافات بالتوبة فهي أسلوب من أساليب تطهير النفس من الآثام ,والندم الذي تولده التوبة له أثر عظيم في تغيير سلوك الإنسان (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )
والإسلام يقرن التوبة بالعمل الصالح فيجعله ملازما بالتوبة ( إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) فيعطي الحافز له بعملية التبديل .
ومن الحالات التي يتعرض لها الإنسان في حياته الخوف والقلق وهما غريزتان تظهران عند التعرض لعامل مؤثر فالخوف يمكن أن يكون إيجابيا وهو الذي يدفع الإنسان إلى العمل لمرضاة الله رجاءا في ثوابه ومغفرته ومخافة عقابه وهذا ما دعانا إليه القرآن (ولمن خاف مقام ربه جنتان)فإذا صاحبه الرجاء أدخل عملية التوازن للنفس,لأنه إن طغى الخوف دخل اليأس وإن طغى الرجاء دخل التهاون وقل العمل ،و أما الخوف الذي يولد حالة من التردد والشك فهو خوف سلبي ،والإسلام يجعل من ذكر الله والاتصال به أساس الاطمئنان والانشراح (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)
وبعد الإيمان يأتي دور العبادات والمواظبة عليها وعلى رأسها الصلاة (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون)فالإنسان من طبيعته الهلع والخوف, وتدل هذه الآية على أن الصلاة تحفظ الإنسان من هذه الاضطرابات فالتواصل مع رب العالمين يحدث الطمأنينة والراحة (أرحنا بها يا بلال) وللراحة أبعاد كثيرة قد ندرك بعضها ونشعر بالآخر.
والإسلام يحض الإنسان أن يكون قويا وجريئا قادرا على المواجهة في كل حالاته المادية والمعنوية بدلا من الخوف والهروب (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)
ومما يريح النفس الإنسانية من اضطراباتها علم الإنسان أن كل ما يجري له هو بقضاء الله وقدره فيستسلم ويرضى لأن الذي قدر له الحياة والممات هو خالقه وأن ما يصيبه فهو من الرحمن الرحيم فلا يصيبه الحزن أو الاكتئاب(وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ) وبين لنا أيضاأن حال الفرح إذا زاد عن حده فإنه ينقلب إلى عجب وغرور, فهذه الضوابط تساعد على بناء إنسان مؤمن قوي وسوي, وعندما عرض القرآن الكريم قصص الأنبياء كعبرة, ذلك حتى يتعلم الإنسان القوة والصبر والعزيمة والمثابرة والمجاهدة في سبيل دينه, والإسلام عالج النفس الإنسانية حتى في قضية حب الاعتداء فألزمها بقواعد الحق بالتعامل الإنساني حتى مع الأعداء (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )
والقرآن الكريم عالج اليأس بقوله (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) فهو بندائه المفعم بالرحمة يحول المشاعر السلبية إلى مشاعر إيجابية وينقذ النفس من الهلاك وهذا يدعو إلى عدم اليأس والاتجاه نحو الأفضل, فالمؤمن مهما عظمت ذنوبه فلن يقدم على الانتحار, إذن القرآن يدل العباد على نهج قويم ليجعل منهم أصحاب رسالة أسوياء وهو يدعونا للتأمل وللعمل بما فيه لنكون خير أمة أخرجت للناس .