النهضة هي الارتقاء والارتفاع ولا يكون هذا الارتفاع إلا بفكر، وصحة النهضة أو بطلانها تكون حسب الفكر الذي يُحمل للنهوض.
فإن كان هذا الفكر وضعياً تكون النهضة نهضة آنية لفترة محدودة لابد أن
يأتي عليها زمن يظهر فيه عوارها وتفشل فتسقط بأصحابها إلى الدرك الأسفل.
أما النهضة الصحيحة فهي النهضة التي تكون من الخالق حين يحل للإنسان
العقدة الكبرى؛ فيجيب عن التساؤلات التي تثار لديه عن الخالق، وعلاقته
بهذا الخالق، وعلاقته بالكون والإنسان والحياة، وعلاقته بما بعد الكون
والإنسان والحياة.
وبما أن الله خلق الإنسان ذكراً وأنثى، وأوجد لهذا الإنسان نظاماً يعيش
بحسبه؛ فقد فرض على كل واحد منهما واجباتٍ كان لا بد من تنفيذها لتحقيق
هذه النهضة.
نظر الإسلام إلى المرأة على أنها أنثى ونظم أنوثتها ووجَّهَها، ونظر أيضاً
إلى الرجل باعتباره ذكراً، وفرض على كل منهما من الواجبات وأعطى لكل منها
من الحقوق ما يتفق مع طبيعته، فاختلفت بعض الأحكام تبعاً لاختلاف طبيعة كل
منهما...
إن الإسلام وحده هو الذي نظر إلى المرأة نظرةً إنسانيةً على قدم المساواة
مع الرجل، بينما لم تنظر الحضارات الأخرى، وحتى الحضارة الأوروبية
الحديثة، إلى المرأة سوى أنها أنثى تتصف بتلك الصفات الأنثوية التي تعبر
عن المتعة والتسلية ومحل الإشباع الغريزي لاغير.
وإن أهم مايميز الإسلام في موقفه من المرأة عن غيره من النظم التي عاشت
قبله والمبادئ التي استجدت بعده هو نظرته الإنسانية إلى المرأة والرجل على
السواء في كل تشريعاته ومفاهيمه، ونظرته للمرأة على أنها أنثى إلى جانب
نظرته للرجل على أنه ذكر...
فنظرة كل مجتمع من المرأة ينعكس بدرجة كبيرة على نهضته، بل ويؤثر في سيره
نحو نهضته أيما تأثير. فالمرأة كما يقولون نصف المجتمع بل إن عدد الإناث
يفوق عدد الذكور، فالمرأة هي شقيقة الرجل، فهي الأم والأخت والابنة، وبقدر
تغلغل تلك المفاهيم وتحديدها وفهمها بقدر وضوح هذه الطريق وسلامتها.
فالمرأة في مجتمع يؤمن بإنسانية المرأة والرجل على السواء تستطيع أن تمارس
دورها الاجتماعي بوصفها إنسانة مخلوقة لخالق، وتخضع لنظم خالقها فتساهم مع
الرجل في مختلف الحقول وتقدم أروع النماذج في تلك الحقول.
وعلى العكس من ذلك المرأة في مجتمع ينظر إليها بوصفها أنثى، قبل أن ينظر
إليها بوصفها إنسانة، فإنها تنكمش وفقاً لهذه النظرة، وتحرم من ممارسة أي
دور خارج نطاق هذه النظرة، بل يرغمها المجتمع على التعويض عن ذلك بمختلف
ألوان الظهور على أساس أنوثتها، وما تعبر عنه من متعة ولذة للرجل.
ونجد خير مصداق لذلك في تاريخ المرأة التي عاشت في كنف الإسلام، وفي ظل
مختلف الحضارات الأخرى، فكان دورها يختلف ويتغير تبعاً لطبيعة نظرة
المجتمع لها ومفهوم الرجل عنها.
ولنبدأ أولاً بالمرأة اليونانية، ففي اليونان مثلاً، وهي من الأمم التي
اعتبرت ذات حضارة وتمدن في التاريخ القديم، بُذلت محاولات للارتفاع
بالمرأة اليونانية وانتشالها من حضيضها الذي كانت تعيشه في عصره البدائي
القديم. وفعلاً فقد تمكنوا من ذلك ولكن على أي حساب وبأي دافع؟
على حساب تكوينها الجسماني ومظهرها الخَلْقي لاغير، فتفننوا في نحت
التماثيل الفاضحة ونقش الصور المكشوفة، وجعلوا من المرأة رمزاً للجمال
والحب والعشق ومصدراً للشهوات الحيوانية والأهواء الوحشية، وبهذا فقد
رفعوا المرأة من وهدتها كإنسانة ساقطة إلى صورة خليعة وتمثال من البرونز،
يركعون بين يديه إكباراً لنواحي الجمال التي يبرزونها فيه. وكان من جراء
جريهم وراء الشهوات الحسية أن تغلبت عليهم المادة، وجرفهم تيارالغرائز
البهيمية وسيطرت عليهم الأهواء الجامحة. وهذه العوامل هي أقوى مِعول يهدم
حضارة الأمم ويحط من مكانتها في التاريخ. ولهذا فنحن نرى المرأة اليونانية
لا تذكر في التاريخ إلا كصورة نقشتها ريشة مصور أو تمثال أبدعه فنان. نعم
هذا كل ما تبقى للمرأة اليونانية لأنها كانت قد تسنمت المجد على حسابه
ولسبب منه.
أما الرومان فإننا نلاحظ سلسلة الصعود والهبوط التي كانت تعيشها المرأة في
الأمة الرومانية، فقد كانت لعبةً طيِّعةً يتلاعب رجلها بها كما يشاء حتى
في حياتها في بعض الأحوال. وبالتدريج تضاءلت عند الرومان فكرتهم الوحشية
عن المرأة بعد أن أخذوا يحاولون التقدم نحو المدنية والارتقاء؛ فحاولوا أن
يرفعوا من مكانة المرأة وأن يجعلوا منها مخلوقة لها كيان في المجتمع،
فماذا صنعوا؟ وبأي شيء رفعوا من مكانة المرأة عندهم؟ وماذا كان دور المرأة
الرومانية في محاولة التمدن تلك؟
لا شيء غير تبجيل المومسات، وتقديس الشهوات، وإباحة النساء، حتى أضحت بعض
المومسات يتلاعبن بأحوال الدولة وشؤونها، وكانت بيوتهن نوادي تضم كثيراً
من رجالات الدولة وكل من له شأن؛ ولهذا فقد عمَّت الفوضى الحيوانية من
جراء ذلك واختلّ نظام الدولة وانحطت مكانتها كأمة.
وفعلاً فقد ذوت دولة الرومان وتلاشت حضارتهم، ولم يبقَ للمرأة الرومانية من ذكر في التاريخ سوى كونها أنثى ساعدت على هدم حضارة أمة.
ثم جاءت أوروبا المسيحية بعد ذلك فكان دور المرأة فيها دوراً سلبياً على
طول الخط، ولم تحاول هي أو علماء أوروبا المسيحية ومفكروها بأن يهيئوا
للمرأة أي مجال تكون من خلاله أحد زوايا النهضة، حتى جاءت أوروبا الجديدة
فحاولت أن تنهض بالمرأة الأوروبية، وأن تجعل منها عنصراً فعالاً في
المجتمع، ففتحت لها أبوابه لتلجه كما تشاء. ودخلته فعلاً واحتلت مكانها
إلى جوار الرجل، ولكن لا لكونها إنسانة تعمل للارتقاء والنهضة، بل لكونها
أداةً من أدوات تسلية الرجل الذي مَنَّ عليها بدخول هذا المجتمع، وفتح
أمامها مغاليقه.
ثم حاولت أوروبا الجديدة أن تتظاهر بمساواة المرأة مع الرجل في قوانينها
ونظمها، وتوصلت إلى ما يبدو في ظاهره مساواة، ولكن واقع مساواتهم هذه جاءت
مختلفة عن حقيقة المساواة، وفي مقابل هذه المساواة الموهومة استنفذ الرجل
منها كل ما يشاء دون قيد أو شرط، واستعرضها كسلعة رخيصة بعد أن فقدت جميع
مقومات أنوثتها من عزة وكرامة وعفة وشرف، وبعد أن خسرت أنوثتها وكيانها
كامرأة، واقتصر دورها في الحياة على تحقيق رغبات الرجل ومتابعته فيما
يتفنن لها من أسباب الأناقة وما يهيئ لها من طرق الدعارة والاستهتار.
هذا هو في الواقع كل ما أحرزته المرأة الأوروبية الحديثة، وهذا كل ما
تمثله اليوم وما تذكر به في الغد يوم تشع الحقيقة في العالم. وهذه هي حال
المرأة في مجتمع ينظر إليها كأنثى لا كإنسانة.
أما قبل الإسلام فقد كان أهل الجاهلية يئدون البنات وهن أحياء خشية العار
والفقر، وكانت المرأة لا يعد لها أي اعتبار، ففي حديث عمر (رضي الله عنه):
«كنا لانعتد بالنساء ولاندخلهن في أمورنا» وفي بعض طرقه: «لايكلم أحد
امرأته إلا إذا كانت له حاجة قضى منها حاجته».
وكانوا إذا مات الرجل كانت المرأة إرثاً، فيلقي عليها بعضهم ثوباً فيرث
نكاحها، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
أما الإسلام، فقد جاء ليكرم المرأة، وليرفع مكانتها، وليعيد لها عزها الذي
فقدته؛ فأعاد لها طهرها وشرفها، بل جعل المحافظة عليه فضيلة والتفريط به
رذيلة تودي بصاحبها إلى الشقاء والضياع في الدنيا والآخرة.
فسماها القارورة، وجعلها العرض الذي يجب أن يصان، وجعلها المؤنسة الغالية،
بل وظل الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي بها حتى في حجة
الوداع.
فهي الأم الرؤوم التي يجب أن يُبَرَّ بها، والأخت الحانية التي لابد من
وجود من يعيلها، وهي الزوجة الطائعة البارة الحافظة لزوجها وماله وولده،
وهي الابنة التي يجب العناية بها وتربيتها خير تربية لتكون ستراً من النار
لذويها بدل أن تكون مدعاة لدخولها.
ففهمت المرأة دورها، وفهم الرجل واجبه نحوها، فنشأ جيل متوازن متكامل يشد بعضه بعضاً، ومضى في طريق النهضة فكانت خير نهضة بل وأجلها.
فالله سبحانه وتعالى بعث سيدنا محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
الناس كافة رجالاً ونساءً حيث قال: ﴿﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾﴾ [الأعراف158] وقال:﴿ ﴿
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾﴾ [البقرة
21] وقال: ﴿﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾﴾ [النساء 1].
فالإسلام جاء بالتكاليف الشرعية للنساء والرجال، فجعل للمرأة حقوقاً وعليها واجبات، كما جعل للرجل حقوقاً وعليه واجبات.
وهذه التكاليف منها ما تعلق بالأنثى بوصفها أنثى، ومنها ما تعلق بالذكر
بوصفه ذكراً، فكان التنوع واختلفت بعض التكاليف للذكر عن الأنثى عندما
جاءت لعلاج عمل معين لإنسان معين لا لمطلق إنسان، فنجد أن شهادة المرأتين
بشهادة رجل في الأعمال التي تكون في جماعة الرجال، واكتفى بشهادة امرأة
واحدة في الأمور التي لا يطلع عليها سواها كأمور الرضاعة والنفقة...
والأمر نفسه كان للرجل، فقد فرض عليه الشرع أحكاماً معينة خصها به لأن
واقعه غير واقع الأنثى، فالمرأة تحيض وتحمل وتلد ولها من الصفات الخَلْقية
غير الصفات الخَلْقية للرجل فجاءت الأحكام تبعاً لتلك الخِلْقة وتلك
المواصفات.
ولكن بالرغم من هذا التنوع في الأحكام، جعل الشرع كثيراً من التكاليف
منوطة بالمرأة والرجل على السواء، فحمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية
فرض على المرأة كما هو على الرجل، بل إن العمل على تغيير الواقع السيئ
مسؤولية في عنقها تُسأل عنها يوم القيامة؛ لأن الخطاب بهذا العمل جاء
عاماً للرجال والنساء لكونه يتعلق بالانسان كإنسان لا كذكر أو أنثى، فكان
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عليهما كلاهما القيام به، قال
تعالى: ﴿﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ ﴾﴾ [التوبة 71].
وما أحوجنا اليوم أن تؤدي المرأة واجبها على خير وجه، وأن تقوم بهذا الفرض
خير قيام. فحتى يعطي هذا الحمل ثماره المرجوة ويحقق الهدف، ألا وهو
استئناف الحياة الإسلامية للنهوض بالأمة خير نهضة، كان لابد أن يكون هذا
العمل ضمن تكتل أو حزب؛ فعلى المرأة المسارعة بالانضمام إلى حزب يعمل على
نهضة الأمة ويتبنى مصالحها ويرعى شؤونها؛ لتكون بذلك متبعة للرسول الكريم
(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوم بما قام به من أعمال بإيجاد ثقافة
إسلامية مركزة؛ لتتحمل أعباء الدعوة وتكون بذلك ممن يعملون على بناء
الشخصية الإسلامية المتميزة؛ فتتكون لديها العقلية النيرة والنفسية
الإسلامية الخيرة، ولا يكون ذلك إلا عن طريق حلقات مركزة بغض النظر عن
السن والمكانة والأصل. وبتكون العقلية والنفسية بحسب الإسلام تصبح قادرةً
على مجابهة فساد الواقع الذي بات واضحاً حتى في أدق أدق تفاصيل حياتنا.
ويجب أن لا يقتصر الأمر على التثقيف، بل لا بد من الصدع بالحق وإلا كانت
كالمكتبة التي تحمل المعلومات بين ثنايا كتبها فلا بد أن يكون سلوكها
إسلامياً، وأن تتصدى لأفكار الكفر والعادات المخالفة للشرع، ولا تتوانى عن
حق فتبينه ولا عن باطل فتكشفه، وعليها أن تبين عوار الأنظمة القائمة وبيان
خطئها وفسادها، وبالمقابل تبين أفكار الإسلام ومفاهيمه وأنظمته الحقة.
فيجب عليها أن تدعو كما كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو بكل
صراحة وجرأة وقوة، فلا تلين ولا تستكين ولا تحابي ولا تداهن، ولا تحسب أي
حساب للعادات والتقاليد، ولا تخاف كونها امرأة فالأمر أعظم من ذلك، فهو
ليس خوفاً من عباد بل هو تنفيذ أوامر رب العباد، فلا تهاب من قول كلمة حق
أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
فالأمر جِدٌ لا هزل، ولا يقتصر على الرجال دون النساء، فمصلحة الأمة تتطلب
عملَ المرأة خيرَ عمل، ولا يكفي تأييدها ومساندتها فقط، فالحكم الشرعي
يبين أن مصلحة الأمة تتمثل في حمل الدعوة من كلا الطرفين: المرأة والرجل،
والعمل على الدعوة إلى الإسلام على السواء، فنحن جميعاً مطالبون بالتواصي
بالحق والتواصي بالصبر قال تعالى: ﴿﴿ وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسَانَ
لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾﴾ [العصر].
فعلى المرأة العمل جاهدةً لحمل الدعوة الإسلامية حملاً حقيقياً، وعليها
أيضاً التحلي بالصبر وتحمل جميع تكاليف الدعوة، فحمل الدعوة ليس بالطريق
السهل واليسير.
وعلى الرجل أيضاً أن يبذل كل وسعه في حث أخته أو زوجه أو حتى والدته للسير
في هذه الطريق، وإسقاط هذا الفرض الذي يعد تاج الفروض، ولا يمنعها بحجة
الخوف عليها لأن الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم الأرحم بعباده من
الوالدة على ولدها، وهو مَنْ فرضَ هذا الأمر عليها، فلا يجب منعهن من
القيام به بهذه الحجج الواهية.
فالنهضة كما قلنا هي الارتقاء والتغيير من حال إلى حال، ولم يمر على الأمة
الاسلامية وضع أكثر انحطاطاً من الحال التي نمر بها اليوم، فلنشمر عن
سواعدنا ونبذل كل الوسع، ولنضحِّ بالغالي والنفيس لتحقيق النهضة التي
يرضاها لنا الله ورسوله.