يوجه أعداء الإسلام سهامهم بين الفينة والأخرى إلى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. يحاولون بذلك تشكيك المسلم في دينه، والحيلولة دون دخول غير المسلمين في هذا الدين العظيم.
ومَكَنَةُ الشبهات عندهم لا تكاد تعطل، أو يعتريها العطب، فهم في كل يوم يخترعون شبهة، أو يستدعونها من ماضي أسلافهم، من غير أن يكلوا أو يملوا من تكرار تلك السخافات والتلبيسات.
ومن آخر ما قذفه هؤلاء على مسامعنا ما زعمه بعض قسس النصارى؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شهوانيا محبا للنساء، ساعيا في قضاء شهوته ونيل رغباته منهن. ويزعمون أن شهوانية محمد صلى الله عليه وسلم لا تقتصر على كثرة نسائه فحسب. ولكن تتخطى ذلك في الزواج من الصغيرات، وفي تطليقه من يرغب فيهن من النساء من أزواجهن ليتزوج بهن.
ويستشهدون على كلامهم بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة؛ وهي بنت ست سنين، ودخوله عليها وهي بنت تسع سنين. كما روى ذلك البخاري ومسلم.
وبزواجه من زينب مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه، والتي فيها نزل قول الحق سبحانه: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: 37).
وقالوا إن محمدا رأى زينب فأعجبته فوقع حبها في قلبه، لكنه خشي كلام الناس فكتم ذلك في نفسه، فنزلت الآية معاتبة له على كتمان مشاعره {وتخفي في نفسك} أي: من حب زينب رضي الله عنها.
انتقائية في الحكم
ونقول في هذه الشبهات: إن الانتقائية التي يمارسها هؤلاء في الحكم على سيد البشر صلى الله عليه وسلم -ولو في قضية الزواج وحدها- تنسف ما يدعونه من مصداقية. فهم لم ينظروا إلى عموم حالات زواجه صلى الله عليه وسلم ليدرسوها. ثم يخرجوا منها بنتيجة علمية نزيهة. تبين فلسفة الزواج عنده صلى الله عليه وسلم وحِكَمَهَ ومقاصده.
ولكنهم وبتعمد صريح نظروا إلى بعض تلك الحالات؛ والتي يشتبه على العامة فهمها، فدلسوا وزيفوا، وأخرجوا حكمهم عليه في قالب من الذم والبهتان! فهلا نظر هؤلاء إلى عموم حياته صلى الله عليه وسلم. وكيف كان عفيفا طاهرا في شبابه وحتى قبل نبوته.
وهلا نظر هؤلاء إلى زواجه الأول من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها. وكيف تزوجها وهي بنت أربعين سنة في حين لم يتجاوز عمره الخامسة والعشرين. ثم لمْ يجمع معها في حياتها أخرى؛ وهو في أوج شبابه وقوته؛ حتى إذا توفيت لم يذهب ليتزوج بأجمل النساء، وإنما تزوج بسودة بنت زمعة امرأة كبيرة أرملة.
وأما زواجه صلى الله عليه وسلم من عائشة؛ فقد تزوجها وقد تجاوز الخمسين بأربع سنوات. وهذه سن ينبغي ألا يفسر فيه الزواج على أنه محض شهوة وطلب متعة. وإنما تزوج صلى الله عليه وسلم بعائشة طلبا لتوثيق العلاقة بينه صلى الله عليه وسلم وبين صاحبه أبي بكر رضي الله عنه.
أما قول الطاعنين في سيد البشر صلى الله عليه وسلم: كيف جمع النبي بين الطفولة والكهولة، وكيف يتزوج الشيخ الوقور البنت الصغيرة؟ فالجواب على ذلك أننا لو طبقنا المعايير الغربية على حياتنا نحن المسلمين اليوم؛ لعدَّ الغربُ كثيرا مما نمارسه غريبا ومستشنعا.
فكيف الحال بعادة عند العرب مضى عليها أربعة عشر قرنا من الزمان. فلم يكن الزواج من الصغيرات مستنكرا في أعرافهم. ولو كان كذلك لعاب كفار ذلك الزمان على النبي صلى الله عليه وسلم زواجه من عائشة رضي الله عنها. ولوجهوا إليه سهام النقد والاتهام. ولم ينتظروا حتى يأتي قسس أمريكا ومستشرقو الغرب؛ ليوجهوا إليه تلك المطاعن.
عادات وتقاليد
لقد كانت عادة زواج الصغيرات في العرف العربي عادة معروفة. فقد تزوج عبد المطلب الشيخ الكبير من هالة بنت عم آمنة؛ في اليوم الذي تزوج فيه عبد الله أصغر أبنائه من صبيّة هي آمنة بنت وهب.
وتزوّج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو في سن جدها. كما أن عمر بن الخطاب عرض بنته الشابة حفصة على أبي بكر الصديق؛ وبينهما من فارق السن مثل الذي بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها.
وينبغي أن يعلم هنا أن بلوغ البنت غير مرتبط بالسن. فقد تبلغ البنت وهي صغيرة. فتظهر عليها علامات البلوغ من الحيض وبروز الثديين وغير ذلك؛ ولم تبلغ التاسعة بعد.
تقول الدكتورة دوشني -وهي طبيبة أمريكية– إن الفتاة البيضاء في أمريكا قد تبدأ في البلوغ عند السابعة أو الثامنة، والفتاة ذات الأصل الأفريقي عند السادسة. ومن الثابت طبيا أيضا أن أول حيضة والمعروفة باسم "المينارك menarche تقع بين سن التاسعة والخامسة عشرة.
ويجب الانتباه أيضا إلى أن نضوج الفتاة في المناطق الحارة مبكر جدا؛ وهو في سن الثامنة عادة. وتتأخر الفتاة في المناطق الباردة إلى سن الواحد والعشرين. كما يحدث ذلك في بعض البلاد الباردة.
كل هذه المعطيات تدل على أنه ليس في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله عنها ما يعيب لا من ناحية العرف الاجتماعي. ولا من ناحية الطب والصحة البدنية.
زواجه زينب بنت جحش
لقد شكل زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش رضي الله عنها؛ أحد أكبر المطاعن التي وجهها المستشرقون لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم. ونحن لا ندري كيف يتحول موطن المدح إلى ذم؟ وكيف تتحول الحسنة في أذهان هؤلاء إلى سيئة؛ يجب الاعتذار منها والاستحياء عند ذكرها!.
نعم لقد كان زواج النبي منها بنت جحش أحد دلائل نبوته، وإحدى فضائله عليه الصلاة والسلام. وذلك لما تضمنته الآيات -محل البحث- من معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ في إخفائه في نفسه ما الله مبديه. وفي خوفه الناس والله أحق أن يخشاه.
وهي معان لو كان النبي صلى الله عليه وسلم ليس نبيا؛ لأخفاها عن الناس؛ حفظا لسمعته وصونا لهيبته. ولما وفرَّ لأعدائه والمتربصين به مادة للطعن فيه، والحط من قدره. لكنه صلى الله عليه وسلم؛ لم يكتمها بل بلغها غير آبه ولا خائف، وبلاغه لها دليل صريح على أنه رسول الله حقا والمبلغ عن الله سبحانه صدقا.
لقد شنّع هؤلاء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ قائلين: كيف يأمر النبي من كان ابنه بالتبني أن يطلق زوجته ليتزوجها هو لنفسه؟!.
وجوابا على ذلك؛ نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر زيدا بطلاق زينب. وإنما أمره بإمساكها. وعوتب في ذلك؛ لأنه كان قد أُعلِمَ من ربه؛ بأنها ستكون زوجته. فأخفى ذلك صلى الله عليه وسلم في نفسه خوفا من كلام الناس ولمزهم.
كما روى ذلك الطبري في تفسيره عن علي بن حسين، قال: "كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه. فلما أتاه زيد يشكوها، قال: {اتق الله وأمسك عليك زوجك}.
فصريح الآية يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان يأمر زيدا بإمساكها. ولم يتزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن طلقها زيد. ونزل زواجه منها بالعقد الإلهي: {زوجناكها}.
فأي عيب أن يتزوج الرجل؛ ممن تحل له في شرعه ودينه. وليس هذا فقط؛ بل أن يحصل في زواجه منها مقاصد شرعية عظيمة؛ كتأكيد ما ثبت تحريمه -أي التبني- حتى يكون أرسخ في النفوس قبوله والعمل به.
أما الروايات التي تشير إلى أنه كان قد وقع في قلبه حب زينب رضي الله عنها. فلم تثبت من وجه يصح الاحتجاج بها؛ فكلها روايات ضعيفة. بل إن ظاهر القرآن يردها؛ لأن نص القرآن دل على أن الله سيظهر ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه}. وما أبداه الله هو زواجه من زينب، لا حبه وتعلقه بها. كما قال سبحانه: {فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها}.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم زير نساء. ولا يعد زواجه من عدة نساء دليلا على شهوانيته عليه الصلاة وأزكى السلام. لم يكن يربط زواجه صلى الله عليه وسلم بعامل الشهوة. بل كان يربطه بمصالح شرعية معتبرة. فقد يتزوج صلى الله عليه وسلم المرأة؛ تأليفا لقلب عدو له.
كما تزوج أم حبيبة تأليفا لقلب والدها أبي سفيان. وقد يتزوج المرأة الأرملة شفقة عليها وحفظا لأولادها، وإكراما لزوجها الذي استشهد في سبيل الله. كما تزوج أم سلمة زوجة الصحابي الشهيد أبي سلمة رضي الله عنه. وقد يتزوج المرأة إكراما لصديق، وتوثيقا لعلاقته به. كما تزوج لهذا السبب السيدتين عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر؛ رضي الله عنهم جميعا.
ونحن هنا لا ننفي الحاجة الإنسانية في زواجه. ولا نستحي من ذكرها. فهي حاجة خَلْقِية تشمل جميع الرجال الأسوياء. ولكننا نحاول أن نضع الأمور في نصابها ومكانها.
كانت تلك ردود مختصرة على ما أثير ويثار عن حالات زواجه صلى الله عليه وسلم. وهي شبهات قديمة تتكرر بين الفينة والأخرى. ولا تقوم على أساس علمي نزيه. وإنما هي شبه وتخيلات تغذيها أحقاد وضغائن. سرعان ما تنقشع عند فحصها واختبارها. فتنكشف حين تنكشف عن جلال وعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.