إن من نظر إلى الدنيا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشها كبد ونكد، وأهلها منها على وجل، إما نعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية، من استغنى فيها فـُـتن، ومن افتقر فيها سخط وحزن، من أحبها أذلته، ومن نظر إليها أعمته، والناس فيها طائفتان:
- طائفة فطنــــاء .. علموا أنها ظل زائل، ونعيم حائل، وأضغاث أحلام، بل فهموا أنها نعم في طيها نقم، وعرفوا أن هذه الحياة الفانيه طريق إلى الحياة الباقية، فرضوا منها باليسير، وقنعوا فيها بالقليل، فاستراحت قلوبهم وأبدانهم، وسلم لهم منها دينهم، وكانوا عند الله من المحمودين، لم تشغلهم دنياهم عن طاعة مولاهم، جعلو النفس الأخير وما وراءه نصب أعينهم، وتدبروا ماذا يكون مصيرهم، وفكروا كيف يخرجون من الدنيا وإيمانهم سالم لهم، وما الذي يبقى معهم منها في قبورهم، وما الذي يتركوه للورثة من بعدهم في الدنيا، أدركوا كل هذا فتأهبوا للسفر وأعدوا الجواب للحساب وقدموا الزاد للمعاد ( وخير الزاد التقوى ) .. طوبى لهم، خافوا فأمنوا وأحسنوا ففازوا.
- وطائفة أخرى جـهـلاء .. عمي البصائر لم ينظروا في أمرها، ولم يكتشفوا سوء حالها ومآلاها ، برزت لهم بزينتها ففتنتهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا حتى ألهتهم عن الله تعالى وشغلتهم عن ذكره وطاعته {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] نسوا الله، أهملوا حقوقه وما قدروه حق قدره ولم يراعوا لانهماكهم في الدنيا مواجب أوامره ونواهيه لذا {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} جعلهم بسبب ذلك ناسين لها حتى لا يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها وسيرون يوم القيامة من الأهوال ما ينسيهم أرواحهم ويجعلهم حيارى ذاهلين {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج :2]. قال بعض السلف: اجتهادك فيما ضمن لك مع تقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك. أقاموها فهدمتهم، واعتزوا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها الآمال، وأحبوا طويل الآجال و نسوا الموت وما وراءه من أهوال .. فخاب أملهم، وضل سبيلهم، وخسروا الدنيا ولم يدركوا الآخرة.
ركنوا إلى الدنيا الدنية *** و تـبوؤا الرتب العلية
حـتـى إذا غــروا بـهـا *** صـرعتهم أيدي المنية
أخي في الله .. إن من غفل عن نفسه .. تصرمت أوقاته، ثم اشتدت عليه حسراته، وأي حسرة على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة، وتقوده أيامه إلى المزيد في الردى والشقوة. إن الزمان و تقلباته أنصحُ المؤدبين، وإن الدهر بقوارعه أفصحُ المتكلمين، فانتبهوا بإيقاظه، واعتبروا بألفاظه.
ورد في الأثــر، أربعـة من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيـا.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.