روميو نوح وسام التميز
عدد المساهمات : 402 تاريخ التسجيل : 24/08/2009 العمر : 36
الشخصية اخر المواضيع:
اوقات الصلاة لتوقيت قنــا: اخر مواضيع المنتدى العام:
↑ Grab this Headline Animator
| موضوع: المقهى شاهد عيان على فترات ازدهار المصريين وانكسارهم>>>محمد نوح2009 الثلاثاء 13 أكتوبر - 11:14 | |
| |
| المقهى شاهد عيان على فترات ازدهار المصريين وانكسارهم
للمقهى حضور خاص في الثقافة المصرية يتجاوز كونه مجرد ملتقى أو مكان لاحتساء المشروبات وتزجية الوقت، وممارسة الألعاب الطاولية، فطالما كانت المقاهي على مر التاريخ الحديث، مولدة وراصدة للعديد من نقلات المجتمع وتغيراته. فمنها انطلقت أغلب الجماعات السياسية، والحركات الأدبية وعلى مقاعدها خطط للانتفاضات الشعبية وبين جدرانها ماتت وولدت قناعات ثقافية شتى أعادت تشكيل المشهد الداخلي مرارا.
ونظرة سريعة على مقاهي مصر اليوم، وخصوصا في القاهرة، كافية لكشف حقيقة البيئة المصرية الراهنة وأيضا تاريخها الاجتماعي والقيمي والتطورات التي أفضت به إلى الوضع الحالي، فالمقهى كان ولا يزال مرآة عاكسة لصور الحراك الداخلي، وتجلياته السياسية والأيديولوجية والإنسانية.
والمشهد المصري الآن وكما يرسمه المقهى– باستثناء مقاهي وسط العاصمة؛ لأن لروادها خصوصية تميزهم عن رواد باقي المقاهي– يتسم بالسلبية والنفعية والميل الاستهلاكي وتراجع مشاعر المواطنة، فزبائن المقهى العصري من الشباب لا هَمّ لهم سوى أحدث الكليبات و" نيو لوك" الفنانين، والتخطيط لمغامراتهم العاطفية القادمة، علاوة على أن المناخ العام للمقهى يغذي في نفوسهم هذه الميول النفعية الاستهلاكية الأنانية بطراز معماره وديكوره المبهرج المبالغ فيه وتفاصيله الزائدة عن الحد، وشاشات عرضه الضخمة التي تبث على الدوام مادة تليفزيونية عديمة التحفيز الذهني والفكري، بل على العكس هي منوِّمة ومغيِّبة فكريا كالمباريات الرياضية والكليبات المختلفة والأفلام الإباحية أحيانا.
أما مقاهي "وسط البلد" فبالرغم من اتسامها بالطابع الثقافي والنخبوي، إلا أنها تعكس هي الأخرى إحساسا بالمرارة لدى المواطن المصري وشعورا عاما بالانهزام واللاجدوى، خصوصا وأن معظم مرتاديها من فئة المثقفين الذين سبق أن ألهبوا الحياة السياسية والاجتماعية في مصر في فترات ماضية، وأصبح أغلبهم الآن ممتنعا عن العمل السياسي أو مشاركا شكليا فيه، كما أنه كف عن الإيمان بدور الثقافة والفن والأدب في صناعة الفكر الجمعي وصياغته وتقدم.
ويظهر ذلك في المناقشات والمحاورات الدائرة بين مثقفي المقهى والتي تخرج عن إطار البحث في الهم العام وتركز فقط على الهم الشخصي ومشاكل الإنتاج الإبداعي ومستحدثاته، وبعض الأحاديث الحميمة بين الأصدقاء. والظاهرة الملفتة حقا الآن هي حرص أصحاب تلك المقاهي " ذات الطابع الثقافي " على حيادية مناقشات زبائنهم وعدم اقترابها من الخطوط الحمراء، وإذا ما حدث وتجاوزها أحد رواد المقهى؛ فإن "المعلم" بنفسه أو نادله لا يتورع عن تخيير "الزبون" بين الصمت الفوري أو مغادرة المقهى، ما يشير إلى تسرب الحس الأمني والتخابري في هذا المكان، ليضاف إلى منظومة جديدة من القيم والعلاقات أبعدته عن شخصيته الأصيلة كصانع للأحداث الكبرى، ومعترك لأشد القضايا الداخلية سخونة، سواء كانت قضايا سياسية أو فكرية وأدبية.
وبالرغم من أن الجميع يأتون إلى المقهى ويغادرونه جماعات، وتنتشر بين أرجائه وعلى مناضده العديد من "الشلل"، إلا أن الصلة الوطيدة تنتفي بين هؤلاء الذين جاء اجتماعهم عبثيا، فلا فرق في نظر الواحد منهم بين الأشخاص الذين يجالسهم بعينهم أو أية جماعة أخرى، المهم لديه هو تمضية الوقت بين صحبة تلهيه عن وحدته واغترابه اللذين لا يفارقانه حتى وهو بين جموع المقهى.
ولا مكان في مقاهي اليوم لمفهوم التواصل الحقيقي أو الجماعة المقربة، كما كان في أزمنة ماضية اعتاد فيها الأصدقاء التجمع كما حدث مثلا مع الأديب نجيب محفوظ وأصدقائه من الحرافيش، أو مع الشاعر أمل دنقل والقاص يحيى الطاهر عبد الله والأبنودي، وغيرهم من الأدباء الذين جمعهم المقهى في علاقة صداقة استمرت لفترات طويلة، فالجميع ينزل إلى المقهى لدرء مشاعر الوحدة والاغتراب والألم، التي هي مشاعر عامة ومشتركة بين أغلب المصريين، ولّدتها الأوضاع الداخلية للدولة والسياسات العامة التي أشعرت المواطنين بالغربة في بلادهم، ولكن البعض ينتبه لها نظرا لوعيه المتجاوز كما حدث مع مثقفي وسط البلد، والبعض الآخر لا يكتشفها مثل شباب مقاهي "الكوفي شوب".
وربما من الغريب أن تصبح المقاهي مؤشرا على حالة ووضع المؤسسات الثقافية في الدولة، حيث إن المسافة بين الاثنين بعيدة كل البعد من الظاهر، أما في الباطن فيكاد الاثنان أن يكونا وجهين لعملة واحدة، بعد تحول المقاهي إلى مؤسسات ثقافية غير رسمية، تستضيف الندوات وبعض المعارض التشكيلية والحلقات الموسيقية والغنائية.
وعلى سبيل المثال هناك بعض ندوات ثابتة لمثقفين من المشاهير مثل علاء الأسواني والناقد فاروق عبد القادر، أو لآخرين من المغمورين، تقام بشكل دوري على عدة مقاهي منها مقهى "الندوة الثقافية " و"التكعيبة" و"سوق الحميدية". وهذه الظاهرة رغم مرجعيتها القديمة المرتبطة بتجمعات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده على مقهى " متاتيا"، والناقد عبد القادر القط وجماعته على مقهى "الامفتريون" بمصر الجديدة، إلا أن لها سمة جديدة تخرج عن شكل الجلسة الودية ومناقشات الأصدقاء، كما حدث قديما؛ لتصب حديثا في قالب التجمعات المنظمة والندوة الحقيقية ذات الموضوع المحدد سلفا والمتحدثين المحضرين لكلمتهم والجمهور المتلقي. وهذا النشاط الجديد الذي اكتسبته المقاهي إنما يدل على تضييق مؤسسات الدولة الرسمية على المثقفين، وتحولها إلى مؤسسات جامدة موالية للسلطة من جهة وللفكر الرجعي ومثقفيه الدوجمائيين من جهة ثانية.
كما يعكس الإقبال المتزايد على ارتياد مقاهي وسط البلد نهوض وتصاعد حركة ثقافية موازية من قبل مؤسسات أجنبية أو مصرية مستقلة منتشرة بمنطقة وسط العاصمة المصرية، كجاليري " التاون هاوس" والمركز الثقافي الألماني ومسرح "روابط"، والجامعة الأمريكية.
ويؤكد المؤرخون ظهور المقاهى فى مصر أوائل القرن العاشر الهجرى فى إحدى الحارات المجاورة للجامع الأزهر، وكان يتردد عليها في البداية الموسيقيون والكتاب وكان الجلوس فيها على مصاطب ثم على دكك خشبية وبعدها أصبحت مكانا يرتاده الجميع، وتطور الأمر أكثر ليصبح لكل فئة مهنية واجتماعية المقهى الخاص بها، فظهرت مقاهى الطوائف، وأصحاب الأعمال، كمقاهي السباكين، وعمال البناء وأهل الفن والسماسرة، إلا أن البعض ربط بين ظهور المقاهي الثقافية وميلاد ظاهرة المثقفين الوطنيين الجدد غير المنتمين للطبقة الأرستقراطية. وبذلك أتاح المقهى مجالاً واسعاً لأبناء الطبقة الوسطى، والفقيرة من المثقفين في الحضور والمشاركة بالجدل الثقافي والسياسي بحرية، كما اكتسب "المقهى"، دوراً فاعلاً في الحياة السياسية والاجتماعية، وانطلقت الشرارة الأولى لهذا الدور مع اجتماع كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الله النديم على مقهى "ماتنيا" الذى كان بمثابة خلية سرية أو مقر تنظيم وطني ، منه حارب هؤلاء الاحتلال ونشروا العديد من أفكارهم التنويرية ودعواهم المجددة.
شكّل مقهى "ماتتيا" دارًا للفكر انطلقت منها أشعار وكتابات النديم ومحمود سامي البارودي وغيرهما، وهنالك مقاه أخرى ولدت بين أرجائها الثورات، ومنها مقهى "الحرية" الشهير بوسط البلد الذي أكد ملاكه الحاليون ونقلا عن أسلافهم، أن الضباط الأحرار كثيرا ما ارتادوه وعقدوا به اجتماعات تمخض عنها قرارات مصيرية في حياة مصر، بينما كان مقهى "إيزافيتش" - الذي هُدم الآن، وكان لعائلة يوغوسلافية من الصرب، كانوا يسمّونهم اليوغسلاف البيض- أحد أشهر ملامح ميدان التحرير سابقاً، ومعتركا للعديد من السجالات الفكرية والسياسية، فهذا المقهى أطل على صفحة وفترة مهمّة من تاريخ مصر، حيث كان من مطلع أربعينيات القرن الماضي، بأسعاره المناسبة لجيوب المثقفين الفقيرة، موطنا لليساريين المصريين، وكان شاهداً على موت نظام الملك فاروق واندلاع ثورة يوليو وبعدهما اندلاع حركة اعتصام الطلبة عام 1971.
من ناحية أخرى ارتبط مقهى "ريش" بالكثير من الأسماء الشهيرة على الصعيدين السياسي والثقافي، وكان المكان الأوّل الذي ولدت فيه مشروعات مختلفة في السياسة والفن وحركات التحرر الوطني من مصر إلى الجزائر. ومع تحوّلات الانفتاح الذي شهدته مصر خلال السبعينيات والثمانينيات الماضية، عانى المقهى من غياب بعض نجومه. ومنذ ذلك الحين حدثت نقلة كبيرة في دور هذا المقهى الذي تحول إلى "كافية" خمسة نجوم للأجانب أو لمثقفي الصفوة، بعد تاريخ حافل خدم فيه المقهى السياسة والأدب، فمنه قاوم الثوار المصريون الإنجليز عام 1919 وكما هو معروف احتوى قبو المقهى على مطبعة سرية كانت تستخدم في طباعة المنشورات، كما ولدت فيه مجلات "الكاتب المصري" التي أسسها الدكتور طه حسين و"جاليري" 68 و"الثقافة الجديدة". وربما ساهم وعي بعض المثقفين بهذا الدور الحيوي للمقهى- ومن أبرزهم الأديب الراحل نجيب محفوظ- في توطيد علاقتهم بالمقاهي بشكل عام وإكسابها مزيدا من الشرعية والفاعلية لأداء دورها الثقافي والسياسي.
ومن هنا جاء حرص محفوظ مثلا على توسيع رقعة البشر من حوله، وزيادة مساحة النقاش والتحاور الثقافي والفكري، فشرع في تأسيس ندوته الأسبوعية التي بدأت مع أصدقائه من الحرافيش على مقاهي القاهرة المختلفة، ثم اتسعت الدائرة وانضم إليها أصدقاء جدد، وأنشأ لهم نجيب محفوظ ندوة ثقافية أعم وأشمل مفتوحة لكل من شاء من المثقفين والأدباء، امتدت جلساتها الأسبوعية في مقهى "الأوبرا" خلال فترة الخمسينيات وجزء من الستينيات، وانتقلت بعدها إلى "ريش" لتصنع تاريخاً أدبياً لهذا المقهى بعد ذلك، ومنه إلى مقاه أخرى شعبية وفاخرة.
و"محفوظ" من أعظم الأدباء الذين استطاعوا تخليد المقهى وجماعاته وعلاقاته التي تمثل صورة مصغرة من حركة المجتمع المصري ككل، وله أعمال استمدت عناوينها من أسماء بعض المقاهي الشهيرة، مثل رواية "قشتمر" وهو مقهى بحي الجمالية كان ملاصقا للبيت القديم الذي تربى ونشأ فيه محفوظ. ولم يكن غريباً أن تحظى جماعات وشلل المقهى بكثير من اهتمام أديب نوبل داخل أعماله الأدبية المختلفة، مثلما حظي باهتمامه الشخصي كزائر ومراقب منتظم، وكمنظّم للندوات الثقافية في عدد من المقاهي. ليتحول المقهى من مجرد مكان للحديث أو احتساء المشروبات أو اللعب إلى شاهد عيان على تاريخ مصر السياسي والثقافي. |
| |
|